ويستدلون على ذلك بحديث صحيح -لكن هل يدل على مرادهم؟- وهو ما روي في قصة موسى من لطمه لملك -يجوز أن تقول: ملِك بالكسر، أو ملَك بالفتح، ومعنى الكسر: أن الله ملكه هذا الأمر- الموت حتى فقأ عينه، وتردده إليه مرة بعد أخرى، والقصة معروفة، إذ إن الله أرسله إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه، وموسى عليه السلام كان ذا قوة وشدة في الحق، ففوجئ بملك الموت جاء ليقبض روحه، فلطمه موسى عليه السلام ففقأ عينه، فرجع الملك إلى ربه عز وجل يشكو إليه ما فعل به موسى عليه السلام، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن ضع يدك على ظهر ثور -هنا يظهر إكرام الله عز وجل لموسى عليه السلام- فمهما وقع تحت يدك من شعر فإنك تعيش قدره من السنين، قال: ثم ماذا بعد يا ربِّ؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن إذاً؟ أي: ما دام بعد كل هذا موت، والموت حق وهو آت لا بد منه، فالآن إذاً. فالملك إذاً ذهب ثم عاد إلى ربه، ثم رجع إليه وقبض روحه في اللحظة التي كتب الله أزلاً أنه يقبض روحه فيها، وصدق الله إذ يقول: ((
فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ))[الأعراف:34]، أبداً في تلك اللحظة، فالذهاب والإياب هذا كان قبل اللحظة التي كتب الله تعالى أنه يقبض فيها، ولذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (
إن روح القدس نفث في روعي، إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، فهذه وصية عظيمة، وقوله: (يجمل في الطلب) أي: لا يلح ولا يبالغ، فإن طلبت فاطلب طلباً جميلاً أو مجملاً؛ لأنه لن تموت نفس أبداً حتى تستكمل رزقها وأجلها، فأما الرزق فإننا نلاحظ ونشاهد أن الإنسان قد يعطى بملء الملعقة، فيأخذ البعض ويرد البعض، ثم يموت، فهو أخذ ما كتب له، ورد الذي لم يكتب له، ولا يمكن أن يموت وبقي له شيء أبداً، والأجل كذلك، إذ إن الحياة أنفاس تتردد، فيتنفس العبد النفس الذي كتب الله له، ثم لا يتنفس له بعد ذلك ما كتب الله أنه يوقف، وعليه فلا يمكن أن يموت أحد حتى يستوفي ذلك، والمقصود أن هذا وقع حيثما قدره الله عز وجل، فإذاً يقولون: إن الملك تردد. وفي قصة أخرى أيضاً ما يتعلق بموت الأنبياء، ففي حديث صحيح بمجموع طرقه، وبعضها حسن وبعضها ضعيف: أن الله تعالى أطلع آبانا آدم عليه السلام على ذريته، واستخرجه من ظهورهم، وذلك كما هو موضوع الميثاق، قال تعالى: ((
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ))[الأعراف:172] فرأى آدم عليه السلام رأى من بينهم ابناً من أبنائه أعجبه وبيص ما بين عينيه، أي: رأى فيه وضاءة ونوراً، فقال: من هذا يا رب؟ قال: هذا عبدي داود عليه السلام، فقال: كم يعيش؟ قال: ستون عاماً، فتقالَّها آدم عليه السلام، وقال: يا رب! أعطه من عمري، فأعطاه من عمره أربعين سنة، وقد جاء في بعض الآثار أن آدم عمِّر ألف سنة والله أعلم، إذ إنها ليست أحاديث مرفوعة ثابتة، لكنها آثار فقط، فلما جاءه ملك الموت ليأخذ روحه قال له: بقي من عمري أربعون سنة، فذكَّره بأنه أعطاها ابنه داود عليه السلام، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (
فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته، وخطي آدم فخطئت ذريته)، فنحن أبناء آدم عليه السلام فينا النسيان والجحود والخطأ، وكل هذه الثلاثة من طبعنا؛ لأن الله تبارك وتعالى جعلها في أبينا آدم عليه السلام، فهو نسي ما أمره الله تبارك وتعالى به وأكل من الشجرة، ومثل هذا الموقف وغيره، فحصلت منه هذه الصفات التي ورثها بنو آدم منه، والمهم أن هذا القول بمعنى: ترديد الرسل، أي: أن الرسل يرددون إلى الولي أو العبد الصالح الذي يراد قبض روحه. قال: (وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله على العبد، ولطفه به، وشفقته عليه). وهذه لا شك فيها، وكأنه يقول: إن هذا كناية عن العطف، واللطف والشفقة والإكرام، وهذا ليس فيه خلاف، والكل متفقون على أن المقصود من هذا الكلام هو أن الله تبارك وتعالى يحب عبده، ويلطف به إلى درجة أنه لو كان يدفع أمراً مقدراً سابقاً لدفع عن عبده هذا الموت؛ لأنه يكره الموت، والله تعالى يكره مساءة هذا العبد، ولا يريد أن ينزل به إلا ما يحبه، فلأنه يكره الموت فالله تعالى يكره له الموت أيضاً، لكن لابد منه ولا بد له منه، والمعنى في النهاية ليس فيه شك، إنما الإشكال: هل يوصف أو ينسب التردد إلى الله عز وجل؟